تعود بنا ذاكرةُ الأيام إلى الثلثِ الأخير من سبعينيات القرن العشرين .. في بلدةٍ عُمانيةٍ صغيرة .. عاشَ علي لحظات اللهو و اللعب مع والديه و أخوته و جدته .. في منزلٍ طيني ربما كان المبنى الوحيد الذي عرفه و تحمّل إحاطة جدرانه به لأكثر من ساعة ..
و كأي صبيٍ لاهٍ سِمَتُهُ البراءة ما فقه يوماً معنى الساعة أو الساعتين, يأتي خبر إلحاقه بالمدرسة كحكمٍ بالسجن المؤبد .. ظن حينها بأن حرية ذلك الطفلِ القابعِ في حجر أمه سيغتالها سجانون كم حكى له أخوته مازحين عن بطشهم و غطرستهم .. راسمين له صورةً كئيبة لذلك المبنى و من فيه ... أقنعوه بأنه ليس إلا .. سجناً و جلادين ..
و جاء اليوم المشئوم .. لتمتطي تلك الحقيبة ظهر ذلك المخلوق الصغير و يبتلعه ذلك المارد (أي الحافلة) حاملاً إياه إلى المدرسة و يال بشاعة الاسم و يال بشاعة من فيه!!!
سافر ابن السادسة إلى ذلك العالمِ الغريب ... كان سفراً بالنسبة لطفلٍ ما غادر البيت يوماً دون والديه ... وصلَ لتختلطَ في ذهنه مشاعرُ الخوفِ و الفضول ... دخل قلعةَ الرعبِ يقتاده الخوف ليرى أُناساً من عالمٍ ليس بعالمه ... أناساً لا يرتدون الدشداشة أو العمامة ... تساءل بكل سذاجةٍ تحومُ حولها الرهبة .. من أي عالمٍ هم؟؟!! ... إنهم يرتدون ملابسَ غريبة!!! ... أيقن بعدها أنها تسمى البنطال و القميص ... ثم أيقن بطريقة ما أنهم من أبناءِ النيل ...
لحظات و تبع عليٌ و أقرانه خطوات أحد أولئك العماليق مرشداً إياهم إلى ما ظنها ذلك الصبي غرف التعذيب ...
جاءت اللحظةُ لينطقَ ذلك العملاقُ بأولى كلماتِه ... "السلام عليكم ... أنا اسمي الأستاذ علي فهمي ... سوف أكون معلمكم ... ستتعلمون إن شاء الله الحروف و الكلمات ... و السور ... و الأرقام"
ألقى تلك الكلماتِ بلكنةِ أبناء النيل مصحوبةً بابتسامةِ الأبِ الحاني ...
و بحذرِ المرعوبين نظرَ ذلك الصبي إلى معلمِه ليلمحَ في وجهِهِ تلك الابتسامة التي ربما جاءت لتمحو قليلاً مما صوره أخوتُه عن سكانِ قلعةِ الرعبِ تلك ...
أخذ المعلم يدنو من أقران عليٍ الواحد تلو الآخر ... و عليٌ يتمنى ألا يأتيه الدور و لكن لا مفر ... دنا منه و قال "اسمك ايه يا بطل؟" ...
سكت علي ... ربما أسكته الخوف ... أو ربما استغرابه تلك اللكنة.
أدرك المعلمُ أن علياً لم يفقه ما قيل فأعاد عليه "من اسمك؟"
عندها قرر عليٌ أن يجيب ... ربما لأنه فقِهَ السؤال ... أو ربما ليعجّلَ رحيلَ المعلمِ عنه ... قال "اسمي علي".
قال المعلم بلكنة عُمانية مكسرة "ما شاء الله ... اسمك جميل ... تعرف ليش ... لأن اسمك مثل اسمي".
ابتسم عليٌ ابتسامةً خجلى و عيناه تلاحق المعلم و هو يدنو من طفل آخر ...
و مرت السويعات ... تعرّف عليٌ يومها على أقرانه و معلميه الواحد تلو الآخر ...
و انقضت تلك السويعات لينطلق عليٌ إلى البيت يحكي لجدته عن أول يوم له في المدرسة ... قال بكل فخر "اسم معلمي علي" ... قالت جدته "إذن هو سميُك" ... قال "نعم يا جدتي ... اسمه مثل اسمي" ... قالت "كيف وجدتَ المدرسة" ... قال علي "امممم .. جميلةٌ يا جدتي ... جميلة".
و بلا إطالةٍ في تفاصيل ذلك اليوم ... أسقطتْ ابتسامةُ ذلك المعلم و حنوه مخاوف الصبي الصغير ... تحولت نظرته لقلعة الرعب و غُرف التعذيب إلى ينبوع ينهل منه العلم و الأدب ... و أصبح أولئك العماليق مخلوقات لطيفة و آباءً يحنون على أبناء تلك البلدة.
معلمي ... يا من تجرعتَ مرارة الغربة ... لك مني الشكر و العرفان ... فما كان لي أن أنسى فضل من علمني أن أخط بقلمي ما أسهم به في بناء وطني ... فإن كنت من أهل الدنيا فليبارك الله في عُمرك ... و إن رحلت عن دنيانا فليسكنك الله فسيح جناته ... و يا قرّاء مدونتي الكرام دمتم سالمين.
موضوع جميل ذكرتنا بايام الدراسة بحلوها و مرها و استعدنا ذكريات العصى
ReplyDelete(عيون باسمة) ستظل ذكريات المدرسة راسخة في عقولنا بأصغر تفاصيلها ... شكراً لك على الزيارة
ReplyDeleteأنا واحد ممن لن ينسوا فضل هؤلاء المعلمين علينا بالرغم من استخدامهم العصا كعقاب للمقصرين لكن كانوا بالفعل من أكفأ العناصر و استطاعوا فرض احترامنا لهم بأساليبهم المميزة و كما قلت صنعوا من تلك الأجيال رجال يعتمد عليهم الوطن
ReplyDeleteأخي أبويمنى
ReplyDeleteالسلام عليكم
تحية طيبة لك ولكل الشعب العماني ,تذكرك لمعلميك من مصر والشام والمغرب , دليل على أصالتك وعرفانك للجميل.
شكراً لك أخي (إبن عمان) و أشاطرك الرأي بأنهم كانوا من أكفأ العناصر التي بدأت مسيرة التعليم في السلطنة
ReplyDeleteأخي الكريم (abdullatif) سنظل أخوة لأن ما يجمعنا أكبر من أن تفرقه الحدود
ReplyDeleteشكر لابو يمنى موضوع جميل في حق المعلمين القدامى يدل على افضال هؤلاء المعلمين علينا كما ان صياغة الموضوع راقية تجعل القارئ يستمتع بها
ReplyDeleteالأخ العزيز (أبو أمجاد) شكراً لك على رأيك الذي يدل على ذوقك الرفيع
ReplyDeleteبسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
ReplyDeleteأشكرك أخي أبا يمنى على هذا الموضوع الجميل والممتع
السلام عليكم.
ReplyDeleteقم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
أعلمت أشرف أو أجل من الذي
يبني وينشئ أنفسا وعقولا
فعلا سيدي الكريم للتعليم الأول أثر في نفسية الإنسان، واثر في مسيرة حياته.
شكراً للأخ العزيز (أبو مجاهد الرنتيسي) على المرور الكريم
ReplyDeleteالأخ (أبو حسام الدين) أشكرك على التعيق الرائع ... و بالفعل لن أنسى فضل معلمي الذي ذاق مرارة الغربة ليعلمني حروف لغتي
ReplyDeleteالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ReplyDeleteفعلا المعلمين القادرين والكبار هم الذين يصنعون رجالا وجيلا قويا لكن في هذا الزمان معلمينا ليس مثل الزمن القديم الذي لديكم فنحن الان اصبح المعلم هو الطالب والطالب هو المعلم حيث ان الوضع ماساوي للغايه.
تقبل مروري
لا ضير أن يتعلم المعلم من طلابه و لكن الأهم أن يبقى الإحترام متبادل بين الطرفين
ReplyDeleteشكراً لكِ (آمنة محمود) على المرور الكريم
اخي ابويمنى هذا يدل على نبل اخلاقك ونقاء سريرتك وطيب اصلك بارك الله فيك .. نعم علينا ذكر اساتذتنا بالخير والحب والدعاء لهم جزااهم الله خيرا.
ReplyDeleteشكراً للأخت (رندا الجنوبية) على هذا الكلام الطيب الذي يدل على سمو أخلاقك و أصلك الرفيع ... أنا لم أثني على أساتذتي إلا لأنهم أهل لذلك و هذا أقل ما أقدمه كعرفان بالجميل
ReplyDeleteرااائعة منك ،،سلمت يديك... ونتمنى منك المزيد
ReplyDelete(GeHaD HaNy)شكراً لك على المرور الكريم و سلمت يداك على التعليق و انتظر ما يسرك إن شاء الله
ReplyDeleteجميل منك هذا العرفان أخي أبو يمني،
ReplyDeleteفي جنبات القصة عبر و إفادة و ربما أكثر ما يلفت الإنتباه هو فطنة المعلم علي و حبه لمهنته، فقد استطاع بلطفه و حنوه أن يبدد خوف الطفل علي ليطمئن قلبه بعدما عاش حالة خوف و مهابة لابتعاده عن عالمه..
ليت كل المعلمين برأفة المعلم علي..و ليت كل التلامذة بأخلاقك أخي أبو يمني..
..
أسلوبك ممتع يستحق التشجيع
بورك قلمك و جزىالله جميع المعلمين
دمت بسعادة
أختي الكريمة (ريحانة الاسلام)
ReplyDeleteتعليقاتكم التي أتشرف بها دائماً هي خير مشجع لي للاستمرار بالكتابة ... سلمت أناملك على التعليق الكريم
عرفان بالجميل ... لاينبع إلا من إنسان أصيل ..
ReplyDeleteذكرتنا أبا يمنى بأيام الدراسة وحلاوتها ...
تقبل مروري ...دمت بود
مرورك على العين و الراس و شكرا على التعليق و دمت بسعادة ... شكرا (أبو إلياس)
ReplyDeleteالله عليك اخى الفاضل ما اجمل الوفاء وهل جزاء الاحسان الا الاحسان
ReplyDeleteطيب الله يومك و تحياتى لك
طيب الله كُل أيامكِ (LOLOCAT) و لكِ ألف تحية على الزيارة الكريمة
ReplyDeleteموضوع رائع زشيق فعلا سرحت فيه فمرت السطور في لحظه
ReplyDelete(مدونة توك شو) شكراً على المرور الكريم و مرحباً بك دائماً
ReplyDeleteياااااااه
ReplyDeleteقصة مؤثرة فعلا وتبقى في الذاكرة على الدوام
فهذه الذكريات لا تنسى خصوصا اول مرة نذهب فيها للمدرسة
لأن المعلم هو الذي ينقش شخصية تلميذه
فيبدد خوفه أو يملؤه رعبا ومرارة
لمعلمك تحية طيبة اينما كان
ولمعلتمي ايضا فأنا أكن لها كل التقدير
(smsmia) تشرفت بزيارتكِ للمدونة و شكراً لكِ على الكلمات الأكثر من رائعة
ReplyDeleteأنت إنسان وكلامك ينم عن سمو خلقك لك مني تحية وسلام
ReplyDeleteالأخ مشرف مدونة حرحيرة ..
ReplyDeleteبارك الله فيك أخي و أتمنى لك التوفيق
أسعدني تعليقك الكريم و لك مني كل التقدير و الاحترام